الرياضة الليبية

محمود الخطيب: أمنيتي أن يلعب العيساوي إلى جانبي

قد تنسى الغابة أسماء العصافير التي ملأتها زقزقةً وصخبًا، وقد يغفل الليل عن نور نجومه التي زينت صفحته، وقد يتخلى البحر عن مده وجزره ويركن موجاته في أحضان الشواطئ، وقد تسقط من ذاكرة المستطيل الأخضر آلاف الأقدام التي رقصت على نجيلته بلا إيقاع، وقد لا تعرف عيون متفرجي اليوم صورة الانبهار التي لا زالت مستوطنة في عيون مشاهدي الأمس، ولكن كما يقول أبو العلاء المعري، لزوم ما يلزم، أقول ما يلزمني هو البحث في ذاكرة شاعر أغاني قد يكون علاها الوهن، وأقفز فوق حواجز سنواتي المتعبة إلى الخلف، وأحاول ترتيب الصور المتلاحقة وأقوم بعملية التوليف “المونتاج”، وربط التواصل لكي يتكون الشريط السينمائي الذي أودّ أن أخرجه، وفعلاً؛ ها هو الضوء يخفت والمرئيات تختفي من أمام ناظري، وأسبح في خيالات الذكرى، ويبدأ العرض بعنوانه الرئيس “فوزي العيساوي”، ومنذ اللقطة الأولى رأيت بيته يقع قبالة بيتي بالضبط في منطقة سيدي حسين حي السكابلي بنغازي، وكان فوزي وإخوته الصغار يملئون الساحة لعبًا وصخبًا، ولكنه دون الصغار دائمًا وأبدًا برفقة الساحرة المستديرة، وكأنها توأم روحه، وقد بدأ الجميع يرددون اسمه، مقرين بعدد “ترقيصه” للكرة دون أن تلمس الأرض، واستهوتني رؤيته والتمتع بذلك التحكم المذهل في لمساته العفوية الفطرية لكرته، وقد كنت في ذلك الوقت لاعبًا أساسيًا في صفوف الأهلي بنغازي وحصلت معه على كأس حينذاك، وبالحدس والخبرة؛ عرفت بل تيقنت بأن هذا الصبي الأسمر سيكون علامةً فارقةً وبارزةً في عالم كرة القدم، وتوالت أحداث الشريط ورأيت فوزي يكوّن فريقًا من الصغار للحي، وكان من البارزين معه ابن أختي عادل السنوسي، وقد شكلا ثنائيًا رائعًا لافتًا للأنظار، وبدأت الفرق المجاورة تتقاطر للعب مع ذاك الفريق الصغير الذي أبهر الجميع، وبدأ الحضور يزداد يومًا بعد يوم لمشاهدة ذاك الغزال الأسمر الساحر الذي سحرهم بفنه الكروي، وكأنه ولد من رحم كرة القدم، وما هي إلا مدة قصيرة إلا وفوزي مع أشبال النصر، وكان المدرب اليوغسلافي، ميتاكلو، في الموعد والتقطت عيونه الخبيرة فوزي وفرزته واحتضنته في شغف، وقال قولته المشهورة “هذا الصبي سيكون نجم السنوات المقبلة في سماء الكرة”، وبدأت رحلة التدريبات والصقل دونما كلل أو ملل من الاثنين، وبسرعة الشهب؛ لمع فوزي دون أقرانه وأقحمه ميتاكلو مع الفريق الأول في عام 76م، رغم وجود كوكبة من اللاعبين الجيدين بقيادة النجم الكبير يوسف صدقي؛ إلا أنه في ذلك الموسم لم يلمع فوزي كما كان متوقعًا وطالب البعض بإخراجه من تشكيل الفريق ولكن المدرب ميتاكلو كان له رأي آخر، وكان على يقين، وما أن بدأ عام 77م إلا وبدأ فوزي يعلن عن موهبته ويفجر جنبات الملعب تصفيقًا وإعجابًا وحبًا وانبهارًا بعطائه الكروي، وولد النجم الذي تفرد بلونه الخاص في طريقة أدائه، فمرونة جسمه وروعة إطلالته ولمساته الساحرة ومداعباته السهلة الممتنعة والعشق المتبادل بينه وبين الكرة التي سقطت في حبائل عشقه دونما تمنع ولا دلال كعادتها بل أطاعته طاعة عمياء وكأنها ليلى لقيس أو ديدمونة لعطيل، أمّا المستطيل الأخضر فقد استسلم بكامله لفوزي، فمنتصف الملعب ذاب فيه حبًا، وعشق مشاويره، وزغردت جنباته لفارسه الأوحد دونما منازع، أما منطقة الجزاء؛ فلا فرحة تملؤها إلا باقتراب فوزي بكرته منها؛ فتطلق أناشيد المحبة مع هتافات الحضور، أما منطقة المرمى فالصراع لا يخفى على أحد؛ فالقائمين والعارضة في حيرة وغيرة مع الشبكة التي عرفت كيف تغازله وتفتنه وكيف تراسله ويراسلها عن ظهر قلب حتى أصبحت القاسم المشترك لاحتضان أغلب كراته سواء بقدميه أو برأسه، أما رفاقه في الملعب؛ فقد كانوا على يقين تام بأن فوزي بلزوم ما يلزم يجعلهم منفردين بالمرمى لاستكمال الجملة الموسيقية التي صاغها لحنًا بهيجًا ليتغنوا بأغنية الهدف، ولا أريد إطالة الشريط، واختير فوزي للمنتخب الوطني من عام بدايته الفعلية 77م في الدورة الإسلامية التي أقيمت في ماليزيا، وتم اختياره كأحسن لاعب في الدورة الأفريقية 82م، التي أقيمت في ليبيا، ووصل فوزي ورفاقه للمباراة النهائية ولولا سوء الحظ وركلة ترجيح طائشة لما ضاعت البطولة، وقال عنه بيرزوت، مدرب منتخب إيطاليا، الذي حضر تلك الدورة لمشاهدة فريق الكاميرون الذي يلعب ضمن مجموعته في تصفيات كأس العالم، قال بيرزوت: ذاك اللاعب الأسمر مؤهل تأهيلاً كاملاً ليلعب في الدوري الإيطالي دونما نقاش، وفي عام 83م؛ اختير فوزي للعب في منتخب العرب في مباراته مع مختلط أندية هولندا في الدوحة ولا ننسى ما قاله مدرب ذاك المنتخب عبد المنعم الحاج قبيل المباراة “غدًا سأقدم جوهرة الكرة العربية”، قاصدًا فوزي بذلك، كما قال عنه نجم منتخب مصر ولاعب الأهلي المصري محمود الخطيب “أمنيتي أن يلعب فوزي بقربي في مبارياتي”. وبدأت أحداث الشريط تلهث بلغة الأرقام لتؤكد ما أودّ نسجه من كلمات وصور عاشقة لفوزي، فقد نال مع النصر بطولة الدوري عام 87م وبطولة الكأس عام 97م، واختير كلاعب القرن في ليبيا عام 99م، له من الأهداف وصنعها ما لا يحصى ولعل لا أحد ينسى أهدافه الثلاثة في الشوط الثاني من مباراة المدفع الغابوني، وعلى مدار 22 عامًا قضاها فوزي كلاعب أساسي في المنتخب الوطني وفريق نادي النصر؛ ها هو فوزي يودّع الملاعب بهدف الترجيح في مباراة اليرموك التي رجحت النصر لنيل الكأس، وفي لحظة الوداع بكى الاثنان الملعب وفوزي، فالأول عانق فوزي وتمتع بفنه الساحر، والثاني لأنه عانق هتاف الجماهير وحبهم وسكن أفئدة عشاق الساحرة المستديرة. ويعود النور، وأستيقظ من نشوة غفوة الذكريات العطرة وأنا أقول إن قلبي لا يطيق التسكع بين ضلوعي بلا حب، لذلك فهو حريصٌ كل الحرص على ألا يعتزل الحب لآخر رمق، فالحب خيوط الوفاء، وكل ما نسجته من كلمات وصور ذهنية عاشقة هي عبارة عن لمسة وفاء صادقة لمتعة الكرة الليبية فوزي العيساوي.

 مقال للكاتب والشاعر الغنائي المرحوم  فرج المذبل

نشر في مجلة نون الرياضية الفنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى