الرياضة الليبية

المايسترو طارق التايب.. “ألحان أهلاوية” تجاوزت حدود الوطن

يصدر العقل أوامره فهل من مجيب.. لم يعد في الإمكان أفضل مما كان.. ما بال القدمين لا يستجيبان.. ما بالهما لا ينفذان الأوامر ويعودان للعزف على أوتار المتعة الكروية الساحرة !!لماذا الآن فقط يكتفيان بالقليل من فواصل العزف؟

وا آسفاه على الأيام.. إنها الرحلة الأخيرة في رحلات سفر (البرنس).. لقد اقترب الموسيقار من الترجل لكن ألحانه ستبقى خالدة بنكهتها الأهلاوية.. إنني أحدثكم عن طارق وما أدراك ما طارق، أرفعوا له القبعة أعجابا وانبهارا بما عزف من ألحان كروية تجاوزت حدود الوطن.

مهارة وحرفنة بلا منازع

سيبقى طارق التايب اسمًا خالدًا في تاريخ الكرة الليبية ورمزًا من رموز الأهلي، حتى وإن أثير من حوله الجدل لتغريدة خارج النص في موقف من المواقف، لكن في سجله كلاعب ليبي كبير ما يشع له ذلكّ!! وحتى تجود الملاعب الليبية بمن يفوقه مهارة وحرفنة، فإن التايب وبلا منازع هو الرقم الصعب في تاريخ الكرة الليبية فهو الماهر والفارس الكروي الذي لا يشق له غبار.

شهادة الأسلاف منتهى الأنصاف

قبل سنوات وعندما كان التايب في أوج عطائه استثمرت لقاءاتي العابرة مع بعض اللاعبين القدامى الذين لعبوا في سنوات قديمة ومنهم المدربينن فأكدوا لي بأن طارق علامة فارقة في الموهبة والمهارة الكروية مقارنة بأسلافه من الجيل القديم وأقرانه من جيله واعتبروه أفضل ما أنجبت الملاعب على الرغم من وجود لاعبين كبار عرفتهم الملاعب الليبية.

الحكاية من أولها

رغم مرور سنوات طويلة على ظهوره الأول فوق الملاعب إلا أن الفترات الفعلية التي لعب فيها التايب خلال محطاته العديدة كانت وللأسف الشديد محدودة نتيجة حالة عدم الاستقرار التي صاحبت مسيرته كلاعب كبير لم يستثمر الاستثمار الأمثل لكنه في كل الأحوال استطاع أن يكون العصفور الليبي الوحيد الذي غرد خارج الديار ونال شهرة كبيرة لم ينلها غيره ممن لعبوا خارج حدود الوطن ولو أنصفته الكرة وظروفها في ليبيا لحقق أكثر مما حققه فقد كانت مسيرته الكروية مليئة بالأحداث المثيرة.

 

وفي اعتقادي أن طارق التايب لم يكن محظوظا قياسا بموهبته الفذة رغم أنه حقق ما حققه من نجاح وشهرة وتألق سواء كان ذلك مع الأهلي أو المنتخب أو خلال فترات احترافه في الخارج، والتي كانت أبرزها مع الهلال السعودي لكن تلك المسيرة الاحترافية الناجحة في أحيان والمتعثرة في أحيان أخرى هي نتيجة للظروف المتقلبة التي مرت بها الكرة الليبية خاصة على مستوى اتحاد الكرة وكذلك سوء تصرف الوكلاء والوسطاء الذين تعامل معهم.

كما كان لطبيعة طارق وعدم خبرته حينذاك دور مؤثر في المشاكل التي واجهته في مسيرة احترافه حتى أن بعض الأندية التي لعب لها لم تصبر عليه رغم اقتناعها بمهارته الكبيرة، كما دفع التايب ثمنا باهظا لتصرفاته الاندفاعية وتصريحاته اللاذعة للمسؤولين والمدربين والتي جاءت نتيجة ما كان يصفه بالظلم والتجاهل الذي يتعرض له والحرب الخفية التي تحاك ضده نتيجة للغيرة والحسد فترصد له هؤلاء، ووضعوا الأشواك في طريقه وكما كان يصفها بمحاولات الظلم والترصد التي تعرض لها في محاولة لعرقلة احترافه وشهرته إلا أنه وفي كل الأحوال كان في إمكان التائب أن يحقق أكثر مما حقق في تجربته الاحترافية لو منح ثقته لمن يستحقها من المتنفذين في الاحتراف الكروي وقوانينه، ووجد المناخ المناسب ولو كان صبورًا ومتريثًا في ردود أفعاله القوية التي لم يتحملها خصومه من لاعبين وإداريين ومسؤولين، خاصة اللاعبين الذين أصابتهم نار الغيرة من وجوده وهو ما حدث له في الدوري التونسي على سبيل المثال.

عبقرية مبكرة

عرفت “التايب” عن قرب أواخر الثمانينيات لاعبا صغيرا في صفوف فرق الفئات السنية بالنادي الأهلي التي كان يتولى تدريبها وحسب ما أتذكر عدة مدربين كان من أبرزهم يوسف الشوشان والبهلول منصور وعلي البندة، كانت عبقريته الكروية المبكرة واضحة للجميع لذلك فقد عرف هؤلاء المدربين قيمة الجوهرة النفيسة التي من بها الله على النادي الأهلي وأصبحت بين أيديهم فتعاملوا معها باهتمام خاص وبدأوا يمسحون عنها الغبار بحرص كبير حتى لا يأفل بريقها ويخبو لمعانها وأحاطوه بالرعاية واعتنوا به كما يعتني المزارع الخبير بشتلة نادرة فحرصوا على ريها وسقايتها وبستنتها ليشتد عودها وتصبح شجرة كبيرة باسقة تعطي أحلى وأطيب الثمار، ولقد نجحوا في ذلك ليفتخر بهم النادي الأهلي أيما افتخار مثلما يفتخر بهذا اللاعب الفذ.

مازال هذا المشهد ماثلا في مخيلتي، فقد كان طارق مولعًا ومهووسًا منذ الصغر بكرة القدم، ولقد شاهدته في مرات عديدة بعد نهاية التدريبات يبقى وحيدًا في الملعب لينفرد بمعشوقته المستديرة الساحرة، فيحنو عليها بلهفة وحب سرمدي ولم تكن هناك مشكلة تواجهه في عواقب المغادرة المتأخرة، فقد كان بيت عائلته على بعد مئات الأمتار من النادي ليتدرج شيئا فشيئا في اللعب محاطًا بالإعجاب والإبهار حتى يصل إلى الفريق الأول، ولتبدأ معها رحلته في عالم النجومية المبهر.
محطات في مسيرة التايب

لن أتحدث بتفاصيل دقيقة عن مسيرة طارق مع الأهلي أو مع الفرق التي احترف فيها، أولاً، لأن ذلك ليس غايتي في هذا الموضوع وثانيا لأن الذاكرة قد تخونني فأغفل عن بعض الجزئيات المهمة ولكن المهم أن البداية كانت على ما أذكر تقريبا في سنة 1995 في مباراة جمعت الأهلي مع الوحدة والتي أحرز فيها هدفا رائعا بتسديدة من مسافة بعيدة منح به الفوز لفريقه حيث راهن عليه المدرب البلغاري الذي يدرب الأهلي في تلك الفترة ليكون لاعبا أساسيا رغم أنه لم يتجاوز سن السابعة عشر، لتبدأ انطلاقته الفعلية مع الفريق.

ولم يمض وقت طويل حتى بدأ هاجس الاحتراف يسكن وجدانه فبدأت رحلته المبكرة والمتشابكة مع الوسطاء والوكلاء فكانت محطته الأولى إيطاليا فتدرب مع أواسط اليوفيتوس، لكنه لم يواصل وانتقل إلى البرتغال، ولم يستقر فيها قبل أن يحط به الرحال في تونس فكانت محطته الأبرز في الدوري التونسي في النادي الصفاقسي الذي لعب معه عدة مواسم وقاده لتحقيق ابرز النتائج وأصبح اللاعب المحترف الأبرز في تونس قبل أن يلعب بعدها لفترة قصيرة مع الأفريقي والنجم الساحلي ويغادر بعدها إلى جازنتيب التركي، ومنها إلى الهلال السعودي الذي تألق معه تألقا كبيرا.

وفي حضوره أصبحت قناة السعودية الرياضية الخيار الأمثل لعشاق الكرة الليبية، من أجل متابعة مباريات الهلال في الدوري السعودي والتي كان التايب نجمها الساطع، بما يقدمه من عروض كروية كبيرة وليعود بعدها وتحديدا في سنة 2010 إلى صفوف الأهلي، لكنها كانت عودة مخيبة للآمال، فقد لعب التائب مع الأهلي في تلك السنة مباريات محدودة، وغاب في أخرى مهمة بسبب العقوبة والإصابة.

رحلته مع المنتخب

خاض طارق التائب الكثير من المباريات مع المنتخب الليبي لكرة القدم، لا أذكرها جميعا، وقاده في عدة مناسبات إفريقية وعربية وكان من أبرز اللاعبين الذين صنعوا التأهل إلى نهائيات كأس إفريقيا 2006، والتي لم يكتب له المشاركة فيها بسبب خلافات وقعت بينة وبين المدرب الكرواتي إيليا لونكاروفيتش، وكان غيابه في تلك النهائيات والذي ما زالت أسبابه غير واضحة خيبة أمل كبيرة للجماهير الكروية الليبية، التي انتظرت ظهوره في أول نهائيات لكأس إفريقيا يصلها المنتخب الليبي عن طريق التصفيات.

كما كان “التايب” حاضرا في جل مباريات المنتخب حتى مطلع سنة ،2011 كما خاض مع المنتخب العديد من المباريات الودية كانت أبرزها أمام المنتخب الأرجنتيني، والتي أحرز فيها هدفا تاريخيا بعد أن تلاعب بالمدافعين وأسكن الكرة الشباك من زاوية صعبة ليلية سقوط الفراعنة بقيادة التايب.

وأصبحت ليلة الثامن من أكتوبر سنة 2004 ليلة خالدة في تاريخ الكرة الليبية ففيها قاد طارق التايب المنتخب الليبي إلى فوز تاريخي على نظيره المصري، وقدم التائب فواصل من الإدهاش الكروي ألهب به المشاعر والأحاسيس وبتمريرتين ساحرتين من (الباص عيون) للثنائي نادر كارة وأحمد سعد.. وجدا نفسيهما وجها لوجه أمام نادر السيد ليهزا شباكه بهدفين اهتزت معهما مدرجات الملعب المكتظة بحوالي 80 ألف متفرج حتى أن صرخات الجماهير في الهدفين سمعت وحسب ما يقال في أماكن بعيدة عن الملعب!

لقد عجل التائب ورفاقه بقيادة المدرب الراحل محمد الخمسي.. برحيل الإيطالي تارديلي، فلم تهدأ ثورة غضب المصريين حتى أقالوه ووضعوه على سلم أول طائرة مغادرة لروما.. كيف لا وكل شيء في تلك (المرمطة) الكروية تم في حضور عصام عبد المنعم رئيس اتحاد الكرة المصري الذي أصابته الدهشة مما شاهده في الملعب وفوق المدرجات، فبقي مشدوها مصدوما إلى حين.. لقد كان فوزا تاريخيا اسقط الكرة المصرية من علياء غرورها لتدعن وتستكين لإرادة الليبيين في ليلة فرح لا تنسى عريسها الأوحد طارق التايب.. وقد قمت بالتعليق على هذه المباراة في صحيفة العرب اليومية تحت عنوان (ليلة سقوط الفراعنة) (التايب أدهش الجميع وعجل برحيل ماركو تارديلي).

 

حكايتي مع التايب

ربطتني علاقة خاصة بطارق التايب تجاوزت قليلا علاقة الصحفي الرياضي بلاعب كرة قدم، وبطبيعة الحال كانت بداية هذه العلاقة في النادي الأهلي وهو لاعب يافع وتوطدت العلاقة خلال فترة احترافه فيما بعد، وكنت التقيه عندما يعود إلى طرابلس كان يزورني في مكتب صحيفة العرب بميدان الجزائر، وساهم في توطيد هذه العلاقة تردد شقيقه الراحل الهادي رحمة الله عليه بانتظام على المكتب لعلاقته بعائلة “آلهوني” المالكة للصحيفة.

وكان طارق حريصا على التواصل معي في نشر أخباره بصحيفة العرب والعرب الرياضي التي كنت أعمل بها، وكثيرة هي المواضيع التي كتبتها عنه والتي ما زلت أحتفظ بها ليس تمييزا له عن غيره، بل تقديرا لموهبته الكروية التي لم ينازعه عليها لاعب آخر لذلك فقد وجدت نفسي متعاطفا معه ونشرت تصريحاته وانتقاداته في العديد من المشاكل التي تعرض لها مع المنتخب، والفرق التي لعب معها، رغم أنني مازلت أرى أن طارق بسجيته وطبيعته كلاعب صعب المراس، قد ساهم في بعض الأحيان في تصعيد تلك الخلافات فهو كثير الانتقادات لأنه على قناعة تامة بأن من يفتعلون معه المشاكل في الداخل والخارج يغارون منه و يريدون أن يستفيدوا من موهبته ولا ينصفونه في حقوقه المشروعة، ولا يضعون حدا للمضايقات والغيرة التي كان يتعرض لها من بعض اللاعبين، كما حد له في تونس.

ولأنه لاعب محترف فقد كان من حقه أن يثور عندما تغتصب حقوقه ومنها خلافه مع النجم الساحلي، والذي امتدت فصوله للاتحاد الليبي لكرة القدم خلال فترة وجود الساعدي القذافي، فقد اشتكاه نادي النجم إلى الفيفا فأصدر الفيفا قرارا أوقف بموجبه التائب عن اللعب وعدم السماح له بالانتقال إلى أي ناد آخر إلا بموافقة النجم الساحلي.

 

وتلقى الاتحاد الليبي لكرة القدم صورة من القرار وتزامن ذلك مع مباراة مهمة للمنتخب الليبي أمام نظيره المصري في القاهرة، فقام الاتحاد الليبي فورا بإبلاغ التايب بعدم إمكانية سفره مع المنتخب والمشاركة في المباراة لكن طارق لم يتقبل الأمر واعتبره (أمر دبر بليل) وأنه أمر مقصود لإبعاده من المشاركة في المباراة فقد كان يرى وحسب وجه نظره بأن قرار الإيقاف لا يسري على مشاركته مع منتخب بلاده وانه قد استفسر من الضالعين في اللوائح والقوانين فأكدوا أحقيته في اللعب مع المنتخب بعد أطلاعهم على القرار.

تحدثت معه في هذا الموضوع، ونشرت له تصريح في صحيفة “الفجر الجديد” اليومية، طالب فيها اتحاد الكرة بالسماح له باللعب مع المنتخب، مؤكدا لهم رغبته خوض المباراة أمام المنتخب المصري لما تمثله له من أهمية كلاعب كبير، غير أن اتحاد الكرة وعلى ما يبدو اعتبر التصريح بمثابة التلميح للرأي العام بأن حرمان التايب من خوض المباراة ما هي إلا عملية مقصودة لم يشملها قرار الاتحاد الدولي!!

تم استدعائي لمقر اتحاد الكرة وطلبوا منى نشر رد على تصريح التائب وأعلموني شفويا بصيغته فطلبت منهم رد رسمي برسالة فرفضوا وقالوا ليس لدينا تعليمات بذلك!!

بعد نقاش مستفيض معهم رجعت إلى مقر الصحيفة، وأعلمت رئيس التحرير بالموضوع، فقال لي لابد من رد رسمي يعفيني من المسؤولية، فقلت له إنهم يطلبون الرد بدون رسالة لكنه رفض جميع محاولاتي!!

واصلت محاولاتي معه وفي آخر المطاف قلت له سوف اكتب الرد وأتعهد بتحمل مسؤوليته فوافق ونشرت الرد الذي جاء فيه بأن الاتحاد الليبي بأنه ينظر إلى جميع اللاعبين بعين المساواة، وأنه تعامل مع موضوع إيقاف التايب بمنتهى الحيادية والأنصاف، وبما تلزمه به اللوائح والقوانين! وطبعا كان ذلك الرد مثل فقاعات الصابون بالنسبة لطارق الذي كان على قناعة بأن كل شيء كان مفتعلا لإبعاده عن أضواء مباراة ملعب القاهرة !!

صافحوه واجعلوا ختامها مسك

يا له من زمن يمضي وسنوات تجري تطوي أيامها ولياليها الواحدة تلو الأخرى، فقد كانت السنوات الثلاثين ويزيد مثل الأمس في الذاكرة المتقدة التي يشيخ البدن ولا تشيخ، ها هو طارق وقد صار على أعتاب التاسعة والثلاثين، ها هو يتطلع إلى المكان الذي انطلق منه برعما عاشقا لمعشوقته الكرة الساحرة، إنه يتأهب للترجل في حضرة الزعيم ليقص شريط الختام مع فريقه في منافسات الدوري، هيئوا له طريق العودة، وأقيموا مهرجان اعتزال يليق بمقامه، لأنه كان سفيرا أهلاويا للكرة الليبية، وكل لحظة تألق عرفها في ملاعب الاحتراف اقترنت باسم الأهلي فمنه خرج واليه يعود صافحوه وسامحوه واجعلوا ختامها مسك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى